تحريــر : د/سمية ابراهيم مصطفي استشاري علم النفس
سحر التقبل
مع تزايد الضغوط النفسية وتحديات الخسارات و الهجرات الاجبارية و تأثيرات النزوح وعدم الاستقرار في زمان الحروب والأزمات، تبرز أهمية التعريف بمفهوم (التقبل ) أو القبول كمفهوم نفسي،فتقبل الذات يعني القدرة على قبول النفس بشكل تام دون شروط أو استثناءات.
أن تتقبل نفسك بسلبياتك قبل ايجابياتك، تتقبل ماضيك و ترسبات طفولتك، تتقبل اسرتك و وضعك الاجتماعي والمادي، تتقبل سمات شخصيتك وملامح وجهك و لون بشرتك و تفاصيل جسدك !!
لعمري انه أمر يشق على النفس، لكنه ممكن يمكن أن تتقبل نفسك والاخرين، أفكارك وانفعالاتك، خساراتك وخيباتك، تغير خططك، تستطيع أن تتقبل كل ما حدث .
التقبل الجذري
كما يشير مفهوم (التقبل الجذري ) إلى القدرة على قبول المواقف الخارجة عن إراداتك دون إطلاق الأحكام عليها مما يقلل من المعاناة التي قد تسببها هذه المواقف.
قبولك لفكرة موت أمك _وهو أشد الخسارات ايلاماً_لا يعني أن تفرح لموتها أو انك كنت ترغب بموتها !! (هل تحس بغرابة التعابير، بعض المصدومين لوفاة عزيز، يعتبر أنه إن قبل بفكرة موته يعني أنه ساهم في موته ونسيانه !!)
التقبل لموت أحدهم يعني ببساطة أن تتقبل الأمر وتسمح لخسارتك بالتواجد طالما لايمكنك دفع الأمر أو اعادته للحياة!
إذن تقبله ولا ترفضه لأن رفضه يخلق لك صنوفاً من العذاب لا مبرر لها.
ومعنى تقبلك لأمر ما : قبوله والتسليم به والرضا به تمام الرضا.
وجميعنا يعلم من سنة الحياة وطبيعتها الكدر والأحزان ؛ فالأفراح مادامت لأحد ؛ فكم من مبتلى فيها بفقد حبيب أو خسارة مال أو ممتلكات وكل ذلك ليس أمراً هيناً ، لكن إن حملت نفسك على تقبل ما حدث ..فانه من الراجح أن تحس بالراحة النفسية؛ ومن المحتمل أن يغدو تعاملك مع الأزمات المستقبلية مختلفاً.
فإنك إن استقبلت القدر السيء بذراعين مفتوحتين بدلاً من مقاومته ورفضه، فإنّ الحياة ستغدو أسهل وأكثر سلاماً.
اختر التقبل والسلام
كما في المثل السوداني (البتجي من السما بتحملا الواطة [الارض]) فان ما تأتي به السماء، ينبغي _طوعاً أو كرهاً_ علي الأرض ومن عليها تحمله.
وستظل الأقدار تتنزل رغماً عنا دون إذن ..فان كان لزاماً علينا التعامل معها مكرهين لم لانستبدل الإكراه بالقبول؟!
على العموم يظل التقبل أحد الخيارات، فاذا وقعت بمشكلة فان امامك طريقان للخروج منها
أما أن تقبل بما حدث وتفكر بايجابية أو أن تتوتر و تغضب و ترفض المشكلة وحينها تعاني من صراع نفسي و بؤس لا ينتهي؛ فإنّ كان التقبل خياراً صعباً بالنسبة لك لكنه -على الأقل- يبقى أحد الخيارات الممكنة و أكثرها تأثيرها عليك فتقبلك لخسارة وظيفة مثلاً يمكن أن يمنحك الهدوء ويجعلك قادراً على المحافظة على السلام الداخلي و التفكير السديد الذي -بلا شك- يسهل طرق بحثك للحصول على وظيفة جديدة، ربما تكون هي الأفضل على الاطلاق ..أفضل من وظيفتك التى بكيت عليها تلك أو حتى وظيفة احلامك !
فالتقبّل يجعلك تؤمن أن كل شيء يحدث لسبب ما، وإن الأفضل قادم لا محالة، فالعسر يعقبه يسر مثلما يتبع نور الفجر ظلام الليل الحالك .
فحين تتعرض لخسارة كبيرة بدلاً من الإفراط في الشكوى أو التفكير؛ تحتاج أن تتعايش مع تلك الخسارة وتتقبل حدوثها، وبدلاً من التحديق بأسى في الباب المغلق بوجهك، أو الاستماتة في كسره، يمكنك الجلوس بهدوء وحينها سترى عدداً من النوافذ المشرعة والتي يمكنك اجتيازها بكل يسر!
التقبّل ليس ضعفاً
اتراك تظن أن التقبّل يعني الضعف والاستسلام؟!
لا ابداً، وإنما هى [خطوات تنظيم] لتستعيد قدرتك على التفكير المنطقي والواقعي.
وتتعلم كيفية تحديد متى يجب عليك أن تثابر وتقاوم وتناضل ومتى ينبغي عليك التقبل؟
لا توقف السعى للأفضل
التقبل يعني أن تتقبل ما حدث، ولكن لا يعني أن تتوقف و لا تسعى للتغيير فعلى سبيل المثال: التقبل لدى سيدة تعاني من زيادة الوزن بعد مرض أصابها يجعلها تتقبل وزنها، ومظهرها و كل تبعات ماحدث، ستقبل جسدها كماهو ولكنها ستهتم بكل ما من شأنه أن يعيدها لوزنها ومظهرها المثالي وقد يستغرق ذلك وقتاً طويلاً، وطوال رحلة انقاص الوزن هذه ستظل هذه السيدة متقبلة لذاتها ولجسدها ومظهرها كماهو، هذا هو التقبل الذي قصدته.
فالتقبل لا يعني أن اتقبل الوضع الحالي للأبد ..فأنت تتقبل بوعي الحاضر مع نظرة منفتحة وواقعية ولا نقول متفاءلة نحو المستقبل!
التقبل وقاية وحماية للنفس يؤهلك للعيش في هذا العالم المتغير باستمرار والمليء بالمفاجاءات بحيث لايمكن أبداً معرفة ما يمكن أن يحدث في الغد، فيكون التقبل بمثابة درعاً واقياً خاصاً بك تحمي به نفسك من الاحباط والخذلان و الألم .
العلاج بالقبول
ولأهمية مفهوم التقبل صار أحد أركان نوع من العلاج النفسي يسمي ( بالعلاج بالقبول والالتزام ) :وهو يختلف عن العلاج السلوكي المعرفي فبدلاً من التوجه لتعليم الناس السيطرة على أفكارهم و مشاعرهم؛ يتم تعليمهم في القبول والالتزام مجرد ملاحظة وتقبل ومتابعة الأحداث الداخلية الخاصة التي تعتريهم خاصة تلك غير المرغوب فيها.
والآن مهما كان حجم خساراتك وصعوبة ما تواجهه.
هل تختار التقبل أم الرفض والمقاومة؟
إن اخترت التقبل فأعلم إنك فتحت أبواب حياتك على مصراعيها، للهدوء و للسلام الداخلي والسكينة، ثم النجاح و السعادة الأبدية غير المشروطة.
مرفأ أخير:
هاتفتني صديقة صغيرة ذات يوم تشتكي وتتذمر انها اضطرت أن تترك جامعتها وصديقاتها وكل حياتها التي اعتادتها وتسافر لبلد اخر مع اسرتها.
قالت وسط دموعها وتنهداتها :(لماذا لم يفكروا بي؟ لماذا قرورا عني؟ كيف يمكنني تعلم اللغة بهذه البلاد الباردة؟كيف يمكنني أن احيا فيها بدون أهل أو صديقات ؟!
لا أريد ان أبدأ الدراسة في جامعة جديدة ؟
وهل هنالك جامعة من الأساس يمكن أن تقبل شهادتي ؟
قلت لها بهدوء :
أمامك خيارين ..اما أن تتقبلي واقعك و تبدأي في تعلم اللغة و تبحثي عن جامعة مناسبة لك و حينها سيكون لديك صديقات كثر.
أو تخبري أهلك برفضك وتحزمي حقيبتك وتعودي..
قاطعتني بصوتٍ وجلٍ :مستحيل لن يقبل والدي بذلك !!
واردفت ببطء:( كما أن الأمر ليس بهذة السهولة، وأنا أيضاً لا أستطيع البعد عن اسرتي!!)
قلت لها بابتسامة وانا أعلم جوابها : ( اذن ماذا ؟)
صمتت برهة ثم قالت بصوت عميق وهي غارقة في أفكارها :(اخترت الرضا؛ علّ العبور يهون )!!
حدثتها يومها، كثيراً عن ماسيصنعه التقبل بروحها وكيانها وعقلها، و طمأنتها، وناقشتها في خططها ومن أين يمكن أن تبدأ في رحلة التقبل.
وبعد عامٍ أرسلت لي صورها وسط زميلاتها في جامعتها الجديدة و كتبت: (لقد عبرت! تعلمت اللغة والتحقت بالجامعة ولدي صديقة و عدد لا بأس به من المعجبين !!)
يا لسحر التقبل و تأثيراته المدهشة..
فمن كان يظن أن تلك الفتاة الساخطة المحبطة يمكن أن تتحول لهذه الطالبة المتوهجة المبتسمة المتحمسة التى أراها في صورها وأنا أتابع نجاحاتها وقيادتها لمبادرات وأنشطة تعرف ببلدها وتدعم قضايا طلاب وشباب العالم.